سورة فاطر - تفسير تفسير أبي حيان

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (فاطر)


        


لما قرر تعالى وحدانيته بأدلة قربها وأمثال ضربها، أتبعها بأدلة سماوية وأرضية فقال: {ألم تر}، وهذا الاستفهام تقريري، ولا يكون إلا في الشيء الظاهر جداً. والخطاب للسامع، وتر من رؤية القلب، لأن إسناد إنزاله تعالى لا يستدل عليه إلا بالعقل الموافق للنقل، وإن كان إنزال المطر مشاهداً بالعين، لكن رؤية القلب قد تكون مسندة لرؤية البصر ولغيرها. وخرج من ضمير الغيبة إلى ضمير المتكلم في قوله: {فأخرجنا}، لما في ذلك من الفخامة، إذ هو مسند للمعظم المتكلم. ولأن نعمة الإخراج أتم من نعمة الإنزال لفائدة الإخراج، فأسند الأتم إلى ذاته بضمير المتكلم، وما دونه بضمير الغائب. والظاهر أن الألوان، إن أريد بها ما يتبادر إليه الذهن من الحمرة والصفرة والخضرة والسواد وغير ذلك، والألوان بهذا المعنى أوسع وأكثر من الألوان بمعنى الأصباغ. وقرأ الجمهور: {مختلفاً ألوانها}، على حد اختلف ألوانها. وقرأ زيد بن علي: مختلفة ألوانها، على حد اختلفت ألوانها، وجمع التكسير يجوز فيه أن تلحق التاء، وأن لا تلحق. وقرأ الجمهور: {جُدَد}، بضم الجيم وفتح الدال، جمع جدة. قال ابن بحر: قطع من قولك: جددت الشيء: قطعته. وقرأ الزهري: كقراءة الجمهور. قال صاحب اللوامح: جمع جدة، وهي ما تخالف من الطريق في الجبال لون ما يليها. وعنه أيضاً، بضم الجيم والدال: جمع جديدة وجدد وجدائد، كما يقال في الاسم: سفينة وسفن وسفائن. قال أبو ذؤيب:
جون السراة أم جدائد أربع ***
وعنه أيضاً: بفتح الجيم والدال، ولم يجزه أبو حاتم في المعنى، ولا صححه أثراً. وقال غيره: هو الطريق الواضح المبين، وضعه موضع الطرائق والخطوط الواضحة المنفصل بعضها من بعض. وقال أبو عبيدة: يقال جدد في جمع جديد، ولا مدخل لمعنى الجديد في هذه الآية. وقال صاحب اللوامح: جدد جمع جديد بمعنى: آثار جديدة واضحة الألوان. انتهى. وقال: مختلف ألوانها، لأن البياض والحمرة تتفاوت بالشدة والضعف، فأبيض لا يشبه أبيض، وأحمر لا يشبه أحمر، وإن اشتركا في القدر المشترك، لكنه مشكل. والظاهر عطف {وغرابيب} على {حمر}، عطف ذي لون على ذي لون. وقال الزمخشري: معطوف على {بيض} أو على {جدد}، كأنه قيل: ومن الجبال مخطط ذو جدد، ومنها ما هو على لون واحد. وقال بعد ذلك: ولا بد من تقدير حذف المضاف في قوله: {ومن الجبال جدد}، بمعنى: ذو جدد بيض وحمر وسود، حتى تؤول إلى قولك: ومن الجبال مختلف ألوانه، كما قال: {ثمرات مختلفاً ألوانها}. {ومن الناس والدواب والأنعام مختلف ألوانها} يعني: ومنهم بعض مختلف ألوانه. وقرأ ابن السميفع: ألوانها. انتهى.
والظاهر أنه لما ذكر الغرابيب، وهو الشديد السواد، لم يذكر فيه مختلف ألوانه، لأنه من حيث جعله شديد السواد، وهو المبالغ في غاية السواد، لم يكن له ألوان، بل هذا لون واحد، بخلاف البيض والحمر، فإنها مختلفة.
والظاهر أن قوله: {بيض حمر} ليسا مجموعين بجدة واحدة، بل المعنى: جدد بيض، وجدد حمر، وجدد غرابيب. ويقال: أسود حلكوك، وأسود غربيب، ومن حق الواضح الغاية في ذلك اللون أن يكون تابعاً. فقال ابن عطية: قدم الوصف الأبلغ، وكان حقه أن يتأخر، وكذلك هو في المعنى، لكن كلام العرب الفصيح يأتي كثيراً على هذا. وقال الزمخشري: الغربيب تأكيد للاسود، ومن حق التوكيد أن يتبع المؤكد، كقولك: أصفر فاقع، وأبيض يقق، وما أشبه ذلك؛ ووجهه أن يظهر المؤكد قبله، فيكون الذي بعده تفسيراً لما أضمر، كقول النابغة:
والمؤمن العائذات الطير ***
وإنما يفعل لزيادة التوكيد، حيث يدل على المعنى الواحد من طريق الإظهار والإضمار جميعاً. انتهى. وهذا لا يصح إلا على مذهب من يجيز حذف المؤكد. ومن النحاة من منع ذلك، وهو اختيار ابن مالك. وقيل: هو على التقديم والتأخير، أي سود غرابيب. وقيل: سود بدل من غرابيب، وهذا أحسن، ويحسنه كون غرابيب لم يلزم فيه أن يستعمل تأكيداً، ومنه ما جاء في الحديث: «أن الله يبغض الشيخ الغربيب»، يعني الذي يخضب بالسواد، وقال الشاعر:
العين طامحة واليد سابحة *** والرجل لائحة والوجه غربيب
وقال آخر:
ومن تعاجيب خلق الله غالية *** البعض منها ملاحيّ وغربيب
وقرأ الجمهور: {الدواب}، مشدد الباء؛ والزهري: بتخفيفها، كراهية التضعيف، إذ فيه التقاء الساكنين. كما همز بعضهم {ولا الظالين}، فراراً من التقاء الساكنين، فحذف هنا آخر المضعفين وحرك أول الساكنين. ومختلفة، صفة لمحذوف، أي خلق مختلف ألوانه كذلك، أي كاختلاف الثمرات والجبال؛ فهذا التشبيه من تمام الكلام قبله، والوقف عليه حسن. قال ابن عطية: ويحتمل أن يكون من الكلام الثاني يخرج مخرج السبب، كأنه قال: كما جاءت القدرة في هذا كله.
{إنما يخشى الله من عباده العلماء}: أي المخلصون لهذه العبر، الناظرون فيها. انتهى. وهذا الاحتمال لا يصح، لأن ما بعد إنما لا يمكن أن يتعلق بهذا المجرور قبلها، ولو خرج مخرج السبب، لكان التركيب: كذلك يخشى الله من عباده، أي لذلك الاعتبار، والنظر في مخلوقات الله واختلاف ألوانها يخشى الله. ولكن التركيب جاء بإنما، وهي تقطع هذا المجرور عما بعدها، والعلماء هم الذين علموه بصفاته وتوحيده وما يجوز عليه وما يجب له وما يستحيل عليه، فعظموه وقدروه حق قدره، وخشوه حق خشيته، ومن ازداد به علماً ازداد منه خوفاً، ومن كان علمه به أقل كان آمن، وقد وردت أحاديث وآثار في الخشية. وقيل: نزلت في أبي بكر الصديق، وقد ظهرت عليه الخشية حتى عرفت فيه. ومن ادعى أن إنما للحصر قال: المعنى ما يخشى الله إلا العلماء، فغيرهم لا يخشاه، وهو قول الزمخشري.
وقال ابن عطية: وإنما في هذه الآية تخصيص العلماء لا الحصر، وهي لفظة تصلح للحصر وتأتي أيضاً دونه، وإنما ذلك بحسب المعنى الذي جاءت فيه. انتهى.
وجاءت هذه الجملة بعد قوله: {الم تر}، إذ ظاهره خطاب للرسول، حيث عدد آياته وأعلام قدرته وآثار صنعته، وما خلق من الفطر المختلفة الأجناس، وما يستدل به عليه وعلى صفاته، فكأنه قال: إنما يخشاه مثلك ومن على صفتك ممن عرفه حق معرفته. وقرأ الجمهور: بنصب الجلالة ورفع العلماء. وروي عن عمر بن عبد العزيز وأبي حنيفة عكس ذلك، وتؤولت هذه القراءة على أن الخشية استعارة للتعظيم، لأن من خشي وهابه أجل وعظم من خشيه وهاب، ولعل ذلك لا يصح عنهما. وقد رأينا كتباً في الشواذ، ولم يذكروا هذه القراءة، وإنما ذكرها الزمخشري، وذكرها عن أبي حيوة أبو القاسم يوسف بن جبارة في كتابه الكامل. {إن الله عزيز غفور}: تعليل للخشية، إذ العزة تدل على عقوبة العصاة وقهرهم، والمغفرة على إنابة الطائعين والعفو عنهم.
{إن الذين يلتون}: ظاهره يقرأون، {كتاب الله}: أي يداومون تلاوته. وقال مطرف بن عبد الله بن الشخير: هذه آية القراء، ويتبعون كتاب الله، فيعملون بما فيه؛ وعن الكلبي: يأخذون بما فيه. وقال السدي: هم أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم، ورضي عنهم وقال: «عطاءهم المؤمنون». ولما ذكر تعالى وصفهم بالخشية، وهي عمل القلب، ذكر أنهم يتلون كتاب الله، وهو عمل اللسان. {وأقاموا الصلاة}: وهو عمل الجوارح، وينفقون: وهو العمل المالي. وإقامة الصلاة والإنفاق: يقصدون بذلك وجه الله، لا للرياء والسمعة. {تجارة لن تبور}: لن تكسد، ولا يتعذر الربح فيها، بل ينفق عند الله. {ليوفهم}: متعلق بيرجون، أو بلن تبور، أو بمضمر تقديره: فعلوا ذلك، أقوال. وقال الزمخشري: وإن شئت فقلت: يرجون في موضع الحال على وأنفقوا راجين ليوفيهم، أي فعلو جميع ذلك لهذا الغرض. وخبر إن قوله: {إنه غفور شكور} لأعمالهم، والشكر مجاز عن الإثابة. انتهى. وأجورهم هي التي رتبها تعالى على أعمالهم، وزيادته من فضله. قال أبو وائل: بتشفيعهم فيمن أحسن إليهم. وقال الضحاك: بتفسيح القلوب، وفي الحديث: «بتضعيف حسناتهم» وقيل: بالنظر إلى وجهه. والكتاب: هو القرآن، ومن: للتبين أو الجنس أو التبعيض، تخريجات للزمخشري. {ومصدقاً}: حال مؤكدة لما {بين يديه} من الكتب الإلهية: التوراة والانجيل والزبور وغيره، وفيه إشارة إلى كونه وحياً، لأنه عليه السلام لم يكن قارئاً كاتباً، وأتى ببيان ما في كتب الله، ولا يكون ذلك إلا من الله تعالى. {إن الله بعباده لخبير بصير}: عالم بدقائق الأشياء وبواطنها، بصير بما ظهر منها، وحيث أهلك لوحيه، واختارك برسالته وكتابه، الله أعلم حيث يجعل رسالاته.
{ثم أورثنا الكتاب}، وثم قيل: بمعنى الواو، وقيل: للمهلة، إما في الزمان، وإما في الإخبار على ما يأتي بيانه.
والكتاب فيه قولان، أحدهما: أن المعنى: أنزلنا الكتب الإلهية، والكتاب على هذا اسم جنس. والمصطفون، على ما يأتي بيانه أن المعنى: الأنبياء وأتباعهم، قاله الحسن. وقال ابن عباس: هم هذه الأمة، أورثت أمة محمد صلى الله عليه وسلم، كل كتاب أنزله الله. وقال ابن جرير: أورثهم الإيمان، فالكتب تأمر باتباع القرآن، فهم مؤمنون بها عاملون بمقتضاها، يدل عليه: {والذين أوحينا إليك من الكتاب هو الحق}، ثم أتبعه بقوله: {ثم أورثنا الكتاب}، فعلمنا أنهم أمة محمد صلى الله عليه وسلم، إذ كان معنى الميراث: انتقال شيء من قوم إلى قوم، ولم تكن أمة انتقل إليها كتاب من قوم كانوا قبلهم غير أمته. فإذا قلنا: هم الأنبياء وأتباعهم، كان المعنى: أورثنا كل كتاب أنزل على نبي، ذلك النبي وأتباعه. والقول الثاني: أن الكتاب هو القرآن، والمصطفون أمة الرسول، ومعنى أورثنا، قال مجاهد: أعطينا، لأن الميراث عطاء. ثم قسم الوارثين إلى هذه الأقسام الثلاثة، قال مكي: فقيل هم المذكرون في الواقعة. فالسابق بالخيرات هو المقرب، والمقتصد أصحاب الميمنة، والظالم لنفسه أصحاب المشأمة، وهو قول يروى معناه عن عكرمة والحسن وقتادة، قالوا: الضمير في منهم عائد على العباد. فالظالم لنفسه الكافر والمنافق، والمقتصد المؤمن العاصي، والسابق التقي على الإطلاق، وقالوا: هو نظير ما في الواقعة. والأكثرون على أن هؤلاء الثلاثة هم في أمة الرسول، ومن كان من أصحاب المشأمة مكذباً ضالاً لا يورث الكتاب ولا اصطفاه الله، وإنما الذي في الواقعة أصناف الخلق من الأولين والآخرين. قال عثمان ابن عفان: سابقنا أهل جهاد، ومقتصدنا أهل حضرنا، وظالمنا أهل بدونا، لا يشهدون جمعة ولا جماعة. وقال معاذ: الظالم لنفسه: الذي مات على كبيرة لم يتب منها، والمقتصد: من مات على صغيرة ولم يصب كبيرة لم يتب منها، والسابق: من مات نائباً عن كبيرة أو صغيرة أو لم يصب ذلك. وقيل: الظالم لنفسه: العاصي المسرف، والمقتصد: متقي الكبائر، والسابق: المتقي على الإطلاق. وقال الحسن: الظالم: من خفت حسناته، والمقتصد: من استوت، والسابق: من رجحت. وقال الزمخشري: قسمهم إلى ظالم مجرم، وهو المرجأ لأمر الله، ومقتصد، وهو الذي خلط عملاً صالحاً وآخر سيئاً؛ وسابق، من السابقين. انتهى. وذكر في التجريد ثلاثة وأربعين قولاً في هؤلاء الأصناف الثلاثة. وقرأ أبو عمران الحوفي، وعمر ابن أبي شجاع، ويعقوب في رواية، والقرآءة عن أبي عمر و: سباق؛ والجمهور. سابق، قيل: وقدم الظالم لأنه لا يتكل إلا على رحمة الله. وقال الزمخشري: للإيذان بكثرة الفاسقين منهم وغلبتهم، وأن المقتصد قليل بالإضافة إليهم، والسابقون أقل من القليل. انتهى. {بإذن الله}: بتيسيره وتمكنه، أي أن سبقه ليس من جهة ذاته، بل ذلك منه تعالى.
والظاهر أن الإشارة بذلك الى إيراث الكتاب واصطفاء هذه الأمة.
{وجنات} على هذا مبتدأ، و{يدخلونها} الخبر. وجنات، قرأءة الجمهور جمعاً بالرفع، ويكون ذلك إخباراً بمقدار أولئك المصطفين. وقال الزمخشري، وابن عطية: {جنات} بدل من {الفضل}. قال الزمخشري: فإن قلت: فكيف جعلت {جنات عدن} بدلاً من {الفضل الكبير} الذي هو السبق بالخيرات المشار إليه بذلك؟ قلت: لما كان السبب في نيل الثواب نزل منزلة المسبب كأنه هو الثواب، فأبدلت عنه جنات عدن. انتهى. ويدل على أنه مبتدأ قراءة الجحدري وهارون، عن عاصم. جنات، منصوباً على الاشتغال، أي يدخلون جنات عدن يدخلونها. وقرأ رزين، وحبيش، والزهري: جنة على الأفراد. وقرأ أبو عمرو: ويدخلونها مبنياً للمفعول، ورويت عن ابن كثير والجمهور مبنياً للفاعل. والظاهر أن الضمير المرفوع في يدخلونها عائداً على الأصناف الثلاثة، وهو يقول عبد الله بن مسعود، وعمر بن الخطاب، وعثمان بن عفان، وأبي الدرداء، وعقبة بن عامر، وأبي سعيد، وعائشة، ومحمد بن الحنيفة، وجعفر الصادق، وأبي إسحاق السبيعي، وكعب الأحبار. وقرأ عمر هذه الآية، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «سابقنا سابق، ومقتصدنا ناج، وظالمنا مغفور له» ومن جعل ثلاثة الأصناف هي التي في الواقعة، لأن الضمير في يدخلونها عائد عنده على المقتصد والسابق. وقال الزمخشري: هو عائد على السابق فقط، ولذلك جعل ذلك إشارة إلى السبق بعد التقسيم، فذكر ثوابهم. والسكوت عن الآخرين ما فيه من وجوب الحذر، فليحذر المقتصد، وليهلك الظالم لنفسه حذراً، وعليهما بالتوبة النصوح المخلصة من عذاب الله، ولا يغتر بما رواه عمر رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «سابقنا سابق، ومقتصدنا ناج، وظالمنا مغفور له»، فإن شرط ذلك صحة التوبة، عسى الله أن يتوب عليهم. وقوله: إما يعذبهم، وإما يتوب عليهم، ولقد نطق القرآن بذلك في مواضع من استقرأها اطلع على حقيقة الأمر ولم يعلل نفسه بالخداع. انتهى، وهو على طريق المعتزلة. وقرأ الجمهور: {يحلون} بضم الياء وفتح الحاء وشد اللام، مبنياً للمفعول. وقرئ: بفتح الياء وسكون الحاء وتخفيف اللام، من حليت المرأة فهي حال، إذا لبست الحلى. ويقال: جيد حال، إذا كان فيه الحلى، وتقدم في سورة الحج الكلام على {يحلون فيها من أساور من ذهب ولؤلؤاً ولباسهم فيها حرير}.
وقرأ الجمهور: {الحزن} بفتحتين؛ وقرئ: بضم الحاء وسكون الزاي، ذكره جناح بن حبيش، والحزن يعم جميع الأحزان، وقد خص المفسرون هنا وأكثروا، وينبغي أن يحمل ذلك على التمثيل لا على التعيين، فقال أبو الدرداء: حزن: أهوال يوم القيامة، وما يصيب هنالك من ظلم نفسه من الغم والحزن. وقال سمرة بن جندب: معيشة الدنيا الخير ونحوه.
وقال قتادة: حزن الدنيا في الحوفة أن لا يتقبل أعمالهم. وقال مقاتل: حزن الانتقال، يقولونها إذا استقروا فيها. وقال الكلبي: خوف الشيطان. وقال ابن زيد: حزن: تظالم الآخرة، والوقوف عن قبول الطاعات وردها، وطول المكث على الصراط. وقال القاسم بن محمد: حزن: زوال الغم وتقلب القلب وخوف العاقبة، وقد أكثروا حتى قال بعضهم: كراء الدار، ومعناه أنه يعم كل حزن من أحزان الدين والدنيا حتى هذا. {إن ربنا لغفور شكور}، لغفور: فيه إشارة إلى دخول الظالم لنفسه الجنة، وشكور: فيه إلى السابق وأنه كثير الحسنات. والمقامة: هي أي الجنة، لأنها دار إقامة دائماً لا يرحل عنها. {من فضله}: من عطائه.
{لا يسمنا فيها نصب}: أي تعب بدن، {ولا يسمنا فيها لغوب}: أي تعب نفس، وهو لازم عن تعب البدن. وقال قتادة: اللغوب: الوضع. وقال الزمخشري: النصب: التعب والمشقة التي تصيب المنتصب المزاول له، وأما اللغوب: فما يلحقه من الفتور بسبب النصب. فالنصب نفس المشقة والكلفة، واللغوب نتيجته، وما يحدث منه من الكلال والفترة. انتهى. فإن قلت: إذا انتفى السبب انتفى مسببه، فما حكمه إذا نفي السبب وانتفى مسببه؟ وأنت تقول: ما شبعت ولا أكلت، ولا يحسن ما أكلت ولا شبعت، لأنه يلزم من انتفاء الأكل انتفاء الشبع، ولا ينعكس، فلو جاء على هذا الأسلوب لكان التركيب لا يمسنا فيها إعياء ولا مشقة؟ فالجواب: أنه تعالى بين مخالفة الجنة لدار الدنيا، فإن أماكنها على قسمين: موضع يمس فيه المشاق والمتاعب كالبراري والصحاري، وموضع يمس فيه الأعياء كالبيوت والمنازل التي فيها الصغار، فقال: {لا يمسنا في نصب}، لأنها ليست مظان المتاعب لدار الدنيا؛ {ولا يمسنا فيها لغوب}: أي ولا نخرج منها إلى موضع نصب ونرجع إليها فيمسنا فيها الإعياء. وقرأ الجمهور: لغوب، بضم اللام، وعلي بن أبي طالب والسلمي: بفتحها. قال الفراء: هو ما يلغب به، كالفطور والسحور، وجاز أن يكون صفة للمصدر المحذوف، كأنه لغوب، كقولهم: موت مائت. وقال صاحب اللوامح: يجوز أن يكون مصدراً كالقبول، وإن شئت جعلته صفة لمضمر، أي أمر لغوب، واللغوب أيضاً في غير هذا للأحمق. قال أعرابي أن فلاناً لغوب جاءت كتابي فاحتقرها، أي أحمق، فقيل له: لم أنثته؟ فقال: أليس صحيفة؟


لما ذكر حال المؤمنين ومقرهم، ذكر حال الكافرين، وهذا يدل على أن أولئك الثلاثة هم في الجنة، {والذين كفروا} هم مقابلوهم، {لا يقضي عليهم}: أي لا يجهز عليهم فيموتوا، لأنهم إذا ماتوا بطلت حواسهم فاستراحوا. وقرأ الجمهور: {فيموتوا}، بحذف النون منصوباً في جواب النفي، وهو على أحد معنيي النصب؛ فالمعنى انتفى القضاء عليهم، فانتفى مسببه، أي لا يقضى عليهم ولا يموتون، كقولك: ما تأتينا فتحدثنا، أي ما يكون حديث، انتفى الإتيان، فانتفى الحديث. ولا يصح أن يكون على المعنى الثاني من معنى النصب، لأن المعنى: ما تأتينا محدثاً، إنما تأتي ولا تحدث، وليس المعنى هنا: لا يقضى عليهم ميتين، إنما يقضى عليهم ولا يموتون. وقرأ عيسى، والحسن: فيموتون، بالنون، وجهها أن تكون معطوفة على لا يقضى. وقال ابن عطية: وهي قراءة ضعيفة. انتهى. وقال أبو عثمان المازين: هو عطف، أي فلا يموتون، لقوله: {ولا يؤذن لهم فيعتذرون} أي فلا يعتذرون ولا يخفف عنهم نوع عذابهم. والنوع في نفسه يدخله أن يحيوا ويسعدوا. قال ابن عطية: وقرأ عبد الوارث عن أبي عمرو: ولا يخفف بإسكان الفاء شبه المنفصل بالمتصل، كقوله:
فاليوم أشرب غير مستحقب ***
وقرأ الجمهور: {نجزي كل}، مبنياً للفاعل، ونصب كل؛ وأبو عمرو، وأبو حاتم عن نافع: بالياء مبنياً للمفعول، كل بالرفع. {وهم يصطرخون}: بني من الصرخ يفتعل، وأبدلت من التاء طاء، وأصله يصرخون، والصراخ: شدة الصياح، قال الشاعر:
صرخت حبلى أسلمتها قبيلها ***
واستعمل في الاستغاثة لجهة المستغيث صوته، قال الشاعر:
وطول اصطراخ المرء في بعد قعرها *** وجهد شقي طال في النار ما عوى
{ربنا أخرجنا}: أي قائلين ربنا أخرجنا منها، أي من النار، وردنا إلى الدنيا. {نعمل صالحاً} قال ابن عباس: نقل: لا إله إلا الله، {غير الذين كنا نعمل}، أي من الشرك، ونمتثل أمر الرسل، فنؤمن بدل الكفر، ونطيع بدل المعصية. وقال الزمخشري: هل اكتفى بصالحاً، كما اكتفى به في {ارجعنا نعمل صالحاً} وما فائدة زيادة {غير الذي كنا نعمل} على أنه يوهم أنهم يعملون صالحاً آخر غير الصالح الذي عملوه؟ قالت: فائدته زيادة التحسر على ما عملوه من غير الصالح مع الاعتراف به، وأما الوهم فزائل بظهور حالهم في الكفر وركوب المعاصي، ولأنهم كانوا يحسنون صنعاً فقالوا: أخرجنا نعمل صالحاً غير الذي كنا نحسبه صالحاً فنعمله. انتهى. روي أنهم يجابون بعد مقدار الدنيا: {أوَلم نعمركم}، وهو استفهام توبيخ وتوقيف وتقرير، وما مصدرية ظرفية، أي مدة يذكر. وقرأ الجمهور: {ما يتذكر فيه من تذكر}. وقرأ الأعمش: ما يذكر فيه، من اذكر، بالادغام واجتلاب همزة الوصل ملفوظاً بها في الدرج. وهذه المدة، قال الحسن: البلوغ، يريد أنه أول حال التذكر، وقيل: سبع عشرة سنة.
وقال قتادة: ثمان عشرة سنة. وقال عمر بن عبد العزيز: عشرون. وقال ابن عباس: أربعون؛ وقيل: خمسون. وقال علي: ستون، وروي ذلك عن ابن عباس. {وجاءكم} معطوف على {أوَلم نعمركم}، لأن معناه: قد عمرناكم، كقوله: {ألم نربّك فينا وليداً} وقوله: {ألم نشرح لك صدرك} ثم قال: {ولبثت فينا} وقال {ووضعنا} لأن المعنى قدر بيناك وشرحنا. والنذير جنس، وهم الأنبياء، كل نبي نذير أمته. وقرئ: النذر جمعاً، وقيل: النذير: الشيب، قاله ابن عباس، وعكرمة، وسفيان، ووكيع، والحسن بن الفضل، والفراء، والطبري. وقيل: موت الأهل والأقارب؛ وقيل: كمال السفل.
{فذوقوا}: أي عذاب جهنم. وقرأ جناح بن حبيش: عالم منوناً، غيب نصباً؛ والجمهور: على الإضافة. ومجيء هذه الجملة عقيب ما قبلها هو أنه تعالى ذكر أن الكافرين يعذبون دائماً مدة كفرهم. كانت مدة يسيرة منقطعة، فأخبر أنه تعالى، {عالم غيب السموات والأرض}، فلا يخفى عليه ما تنطوي عليه الصدور من المضمرات. وكان يعلم من الكافر أنه تمكن الكفر في قلبه، بحيث لو دام إلى الأبد ما آمن بالله ولا عبده. وخلائف: جمع خليفة، وخلفاء: جمع خليف ويقال للمستخلف: خليفة وخليف، وفي هذا تنبيه على أنه تعالى استخلفهم بدل من كان قبلهم، فلم يتعظوا بحال من تقدمهم من مكذبي الرسل وما حل بهم من الهلاك، ولا اعتبروا بمن كفر، ولم يتعظوا بمن تقدم. {فعليه كفره}: أي عقاب كفره، والظاهر أنه خطاب عام؛ وقيل: لأهل مكة. والمقت: أشد الاحتقار والبغض والغضب، والخسار: خسار العمر. كان العمر رأس مال، فإن انقضى في غير طاعة الله، فقد خسره واستعاض به بدل الربح بما يفعل من الطاعات سخط الله وغضبه، بحيث صاروا إلى النار.
{قل أرأيتم شركاءكم}، قال الحوفي: ألف الاستفهام ذلك للتقرير، وفي التحرير: أرأريتم: المراد منه أخبروني، لأن الاستفهام يستدعي ذلك. يقول القائل: أرأيت ماذا فعل زيد؟ فيقول السامع: باع واشترى، ولولا تضمنه معنى أخبروني لكان الجواب نعم أو لا. وقال ابن عطية: أرأيتم ينزل عند سيبويه منزلة أخبروني. وقال الزمخشري: أروني بدل من أرأيتم لأن معنى أرأيتم أخبروني، كأنه قال: أخبروني عن هؤلاء الشركاء وعن ما استحقوا به الإلهية والشركة، أروني أي جزء من أجزاء الأرض استبدوا بخلقه دون الله، أم لهم مع الله شركة في خلق السموات؟ أم معهم كتاب من عند الله ينطق بأنهم شركاؤه؟ فهم على حجة وبرهان من ذلك الكتاب، أو يكون الضمير في {آتيناهم} للمشركين لقوله: {أم أنزلنا عليهم سلطاناً} {أم آتيناهم كتاباً من قبله}
{بل إن يعد الظالمون بعضهم}: وهم الرؤساء، {بعضاً}: وهم الأتباع، {إلا غروراً} وهو قولهم: {هؤلاء شفعاؤنا عند الله} انتهى. أما قوله {أروني} بدل من {أرأيتم} فلا يصح، لأنه إذا أبدل مما دخل عليه الاستفهام فلا بد من دخول الأداة على البدل، وأيضاً فإبدال الجملة من الجملة لم يعهد في لسانهم، ثم البدل على نية تكرار العامل، ولا يتأتى ذلك هنا، لأنه لا عامل في أرأيتم فيتخيل دخوله على أروني.
وقد تكلمنا في الأنعام على أرأيتم كلاماً شافياً. والذي أذهب إليه أن أرأيتم بمعنى أخبرني، وهي تطلب مفعولين: أحدهما منصوب، والآخر مشتمل على استفهام. تقول العرب: أرأيت زيداً ما صنع؟ فالأول هنا هو {شركاءكم}، والثاني {ماذا خلقوا}، وأروني جملة اعتراضية فيها تأكيد للكلام وتسديد. ويحتمل أن يكون ذلك أيضاً من باب الإعمال، لأنه توارد على ماذا خلقوا، أرأيتم وأروني، لأن أروني قد تعلق على مفعولها في قولهم: أما ترى، أي ترى هاهنا، ويكون قد أعمل الثاني على المختار عند البصريين. وقيل: يحتمل أن يكون أرأيتم استفهاماً حقيقياً، وأروني أمر تعجيز للتبيين، أي أعملتم هذه التي تدعونها كما هي وعلى ما هي عليه من العجز، أو تتوهمون فيها قدرة؟ فإن كنتم تعلمونها عاجزة، فكيف تعبدونها؟ أو توهمتم لها قدرة، فأروني قدرتها في أي شيء هي، أهي في الأرض؟ كما قال بعضهم: إن الله إله في السماء، وهؤلاء آلهة في الأرض. قالوا: وفيها من الكواكب والأصنام صورها، أم في السموات؟ كما قال بعضهم: إن السماء خلقت باستعانة الملائكة، فالملائكة شركاء في خلقها، وهذه الأصنام صورها، أم قدرتها في الشفاعة لكم؟ كما قال بعضهم: إن الملائكة ما خلقوا شيئاً، ولكنهم مقربون عند الله، فنعبدهم لتشفع لنا، فهل معهم من الله كتاب فيه إذنه لهم بالشفاعة؟ انتهى. وأضاف الشركاء إليهم من حيث هم جعلوهم شركاء الله، أي ليس للأصنام شركة بوجه إلا بقولهم وجعلهم، قيل: ويحتمل شركاءكم في النار لقوله: {إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم} والظاهر أن الضمير في {آتيناهم} عائد على الشركاء، لتناسب الضمائر، أي هل مع ما جعل شركاء لله كتاب من الله فيه إن له شفاعة عنده؟ فإنه لا يشفع عنده إلا بإذنه. وقيل: عائد على المشركين، ويكون التفاتاً خرج من ضمير الخطاب إلى ضمير الغيبة إعراضاً عنهم وتنزيلاً لهم منزلة الغائب الذي لا يحصل للخطاب، ومعناه: أن عبادة هؤلاء أما بالعقل، ولا عقل لمن يعبد ما لا يخلق من الأرض جزءاً من الأجزاء ولا له شرك في السماء؛ وأما بالنقل، ولم نؤت المشركين كتاباً فيه أمر بعبادة هؤلاء، فهذه عبادة لا عقلية ولا نقلية. انتهى. وقرأ ابن وثاب، والأعمش، وحمزة، وأبو عمرو، وابن كثير، وحفص، وأبان عن عاصم: {على بينة}، بالإفراد؛ وباقي السبعة: بالجمع.
ولما بين تعالى فساد أمر الأصنام ووقف الحجة على بطلانها، عقبة بذكر عظمته وقدرته ليتبين الشيء بضده، وتتأكد حقارة الأصنام بذكر عظمة الله فقال: {إن الله يمسك السموات والأرض أن تزولا}: والظاهر أن معناه أن تنتقلا عن أماكنهما وتسقط السموات عن علوها.
وقيل: معناه أن تزولا عن الدوران. انتهى. ولا يصح أن الأرض لا تدور. ويظهر من قول ابن مسعود: أن السماء لا تدور، وإنما تجري فيها الكواكب. وقال: كفى بها زوالاً أن تدور، ولو دارت لكانت قد زالت. وأن تزولا في موضع المفعول له، وقدر لئلا تزولا، وكراهة أن تزولا. وقال الزجاج: يمسك: يمنع من أن تزولا، فيكون مفعولاً ثانياً على إسقاط حرف الجر، ويجوز أن يكون بدلاً، أي يمنع زوال السموات والأرض، بدل اشتمال. {ولئن زالتا}: إن تدخل غالباً على الممكن، فإن قدرنا دخولها على الممكن، فيكون ذلك باعتبار يوم القيامة عند طي السماء ونسف الجبال، فإن ذلك ممكن، ثم واقع بالخبر الصادق، أي ولئن جاء وقت زوالهما. ويجوز أن يكون ذلك على سبيل الفرض، أي ولئن فرضنا زوالهما، فيكون مثل لو في المعنى. وقد قرأ ابن أبي عبلة: ولو زالتا، وإن نافية، وأمسكهما في معنى المضارع جواب للقسم المقدّر قبل لام التوطئة في لئن، وإنما هو في معنى المضارع لدخول إن الشرطية، كقوله: {ولئن أتيت الذين أوتوا الكتاب بكل آية ما تبعوا قبلتك} أي ما يتبعون، وكقوله: {ولئن أرسلنا ريحاً فرأوه مصفراً لظلوا} أي ليظلوا، فيقدّر هذا كله مضارعاً لأجل إن الشرطية، وجواب إن في هذه المواضع محذوف لدلالة جواب القسم عليه. قال الزمخشري: و{إن أمسكها} جواب القسم في {ولئن زالتا}، سدّ مسدّ الجوابين. انتهى، يعني أنه دل على الجواب المحذوف، وإن أخذ كلامه على ظاهره لم يصح، لأنه لو سدّ مسدّهما لكان له موضع من الإعراب باعتبار جواب الشرط، ولا موضع له من الإعراب باعتبار جواب القسم. والشيء الواحد لا يكون معمولاً غير معمول. ومن في {من أحد} لتأكيد الاستغراق، ومن في {من بعده} لابتداء الغاية، أي من بعد ترك إمساكه. وسأل ابن عباس رجلاً أقبل من الشام: من لقيت؟ قال كعباً، قال: وما سمعته يقول؟ قال: إن السموات على منكب ملك، قال: كذب كعب، أما ترك يهوديته بعد؟ ثم قرأ هذه الآية. وقال ابن مسعود لجندب البجلي، وكان رجل: أي كعب الأحبار في كلام آخره ما تمكنت اليهودية في قلب وكادت أن تفارقه. وقالت طائفة: اتصافه بالحلم والغفران في هذه الآية إنما هو إشارة إلى أن السماء كادت تزول، والأرض كذلك، لإشراك الكفرة، فيمسكها حكماً منه عن المشركين وتربصاً ليغفر لمن آمن منهم، كما قال في آخر آية أخرى: {تكاد السماء يتفطرن منه} الآية. وقال الزمخشري: {حليماً غفوراً}، غير معاجل بالعقوبة، حيث يمسكها، وكانتا جديرتين بأن تهدهد العظم كلمة الشرك، كما قال {تكاد السموات يتفطرن منه} الآية.


الضمير في {وأقسموا} لقريش. ولما بين إنكارهم للتوحيد، بين تكذيبهم للرسل. قيل: وكانوا يعلنون اليهود والنصارى حيث كذبوا رسلهم، وقالوا: لئن أتانا رسول ليكونن أهدى من إحدى الأمم. فلما بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم، كذبوه. {لئن جاءهم}: حكاية لمعنى كلامهم لا للفظهم، إذ لو كان اللفظ، لكان التركيب لئن جاءنا نذير من إحدى الأمم، أي من واحدة مهتدية من الأمم، أو من الأمة التي يقال فيها إحدى الأمم تفضيلاً لها على غيرها، كما قالوا: هو أحد الأحدين، وهو أحد الأحد، يريدون التفضيل في الدهاء والعقل بحيث لا نظير له، وقال الشاعر:
حتى استشاروا في أحد الأحد *** شاهد يرادا سلاح معد
{فلما جاءهم نذير}، وهو محمد صلى الله عليه وسلم، قاله ابن عباس، وهو الظاهر. وقال مقاتل: هو انشقاق القمر. {ما زادهم}: أي ما زادهم هو أو مجيئه. {إلا نفوراً}: بعداً من الحق وهرباً منه. وإسناد الزيادة إليه مجاز، لأنه هو السبب في أن زادوا أنفسهم نفوراً، كقوله: {فزادتهم رجساً إلى رجسهم} وصاروا أضل مما كانوا. وجواب لما: {ما زادهم}، وفيه دليل واضح على حرفية لما لا ظرفيتها، إذ لو كانت ظرفاً، لم يجز أن يتقدّم على عاملها المنفي بما، وقد ذكرنا ذلك في قوله: {فلما قضينا عليه الموت ما دلهم} وفي قوله: {ولما دخلوا من حيث أمرهم أبوهم ما كان يغني عنهم} والظاهر أن {استكباراً} مفعول من أجله، أي سبب النفور وهو الاستكبار، {ومكر السيء} معطوف على {استكباراً}، فهو مفعول من أجله أيضاً، أي الحامل لهم على الابتعاد من الحق هو الاستكبار؛ {والمكر السيء}، وهو الخداع الذي ترومونه برسول الله صلى الله عليه وسلم، والكيد له. وقال قتادة: المكر السيء هو الشرك. وقيل: {استكباراً} بدل من {نفوراً}، وقاله الأخفش. وقيل: حال، يعني مستكبرين وماكرين برسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين، ومكر السيء من إضافة الموصوف إلى صفته، ولذلك جاء على الأصل: {ولا يحيق المكر السيء}. وقيل: يجوز أن يكون {ومكر السيء} معطوفاً على {نفوراً}. وقرأ الجمهور: ومكر السيء، بكسر الهمزة؛ والأعمش، وحمزة: بإسكانها، فإما إجراء للوصل مجرى الوقف، وإما إسكاناً لتوالي الحركات وإجراء للمنفصل مجرى المتصل، كقوله: لنا ابلان. وزعم الزجاج أن هذه القراءة لحن. قال أبو جعفر: وإنما صار لحناً لأنه حذف الإعراب منه. وزعم محمد بن يزيد أن هذا لا يجوز في كلام ولا شعر، لأن حركات الإعراب دخلت للفرق بين المعاني، وقد أعظم بعض النحويين أن يكون الأعمش يقرأ بهذا، وقال: إنما كان يقف على من أدّى عنه، والدليل على هذا أنه تمام الكلام، وأن الثاني لما لم يكن تمام الكلام أعربه، والحركة في الثاني أثقل منها في الأوّل لأنها ضمة بين كسرتين.
وقال الزجاج أيضاً: قراءة حمزة ومكر السيء موقوفاً عند الحذاق بياءين لحن لا يجوز، وإنما يجوز في الشعر للاضطرار. وأكثر أبو علي في الحجة من الاستشهاد، والاحتجاج للإسكان من أجل توالي الحركات والاضطرار، والوصل بنية الوقف، قال: فإذا ساغ ما ذكرناه في هذه القراءة من التأويل، لم يسغ أن يقال لحن. وقال ابن القشيري: ما ثبت بالاستفاضة أو التواتر أنه قرئ به فلا بد من جوازه، ولا يجوز أن يقال لحن. وقال الزمخشري: لعله اختلس فظن سكوناً، أو وقف وقفة خفيفة، ثم ابتدأ {ولا يحيق}. وروي عن ابن كثير: ومكر السيء، بهمزة ساكنة بعد السين وياء بعدها مكسورة، وهو مقلوب السيء المخفف من السيء، كما قال الشاعر:
ولا يجزون من حسن بسيّ *** ولا يجزون من غلظ بلين
وقرأ ابن مسعود: ومكراً سيئاً، عطف نكرة على نكرة؛ {ولا يحيق}: أي يحيط ويحل، ولا يستعمل إلا في المكروه. وقرئ: يحيق بالضم، أي بضم الياء؛ المكر السيء: بالنصب، ولا يحيق الله إلا بأهله، أما في الدنيا فعاقبة ذلك على أهله. وقال أبو عبد الله الرازي: فإن قلت: كثيراً نرى الماكر يفيده مكره ويغلب خصمه بالمكر، والآية تدل على عدم ذلك. فالجواب من وجوه: أحدها: أن المكر في الآية هو المكر بالرسول من العزم على القتل والإخراج، ولا يحيق إلا بهم حيث قتلوا ببدر. وثانيها: أنه عامّ، وهو الأصح، فإنه عليه السلام نهى عن المكر وقال: «لا تمكروا ولا تعينوا ماكراً»، فإنه تعالى يقول: {ولا يحيق المكر السيء إلا بأهله}، فعلى هذا يكون ذلك الممكور به أهلاً فلا يزد نقصاً وثالثها: أن الأمور بعواقبها، ومن مكر به غيره ونفذ فيه المكر عاجلاً في الظاهر، ففي الحقيقة هو الفائز، والماكر هو الهالك. انتهى.
وقال كعب لابن عباس في التوراة «من حفر حفرة لأخيه وقع فيها»، فقال له ابن عباس: إنا وجدنا هذا في كتاب الله، {ولا يحيق المكر السيء إلا بأهله}. انتهى.
وفي أمثال العرب «من حفر لأخيه جباً وقع فيه منكباً». و{سنة الأولين}: إنزال العذاب على الذين كفروا برسلهم من الأمم، وجعل استقبالهم لذلك انتظاراً له منهم. وسنة الأولين أضاف فيه المصدر. وفي {لسنة الله} إضافة إلى الفاعل، فأضيفت أولاً إليهم لأنها سنة بهم، وثانياً إليه لأنه هو الذي سنها. وبين تعالى الانتقام من مكذبي الرسل عادة لا يبدلها بغيرها ولا يحولها إلى غير أهلها، وإن كان ذلك كائن لا محالة. واستشهد عليهم مما كانوا يشاهدونه في مسايرهم ومتاجرهم، في رحلتهم إلى الشام والعراق واليمن من آثار الماضين، وعلامات هلاكهم وديارهم، كديار ثمود ونحوها، وتقدّم الكلام على نظير هذه الجملة في سورة الروم.
وهناك {كانوا أشد منهم قوّة} استئناف إخبار عن ما كانوا عليه، وهنا: {وكانوا}: أي وقد كانوا، فالجملة حال، فهما مقصدان. {وما كانوا الله ليعجزه}: أي ليفوته ويسبقه، {من شيء}: أي شيء، و{من} لاستغراق الأشياء {إنه كان عليماً قديراً}: فبعلمه يعلم جميع الأشياء، فلا يغيب عن علمه شيء، وبقدرته لا يتعذر عليه شيء.
ثم ذكر تعالى حلمه تعالى على عباده في تعجيل العقوبة فقال: {ولو يؤاخذ الله الناس بما كسبوا}: أي من الشرك وتكذيب الرسل، وهو المعنى في الآية التي في النحل، وهو قوله: {بظلمهم}، وتقدّم الكلام على نظير هذه الآية في النحل، وهناك {عليها}، وهنا على {ظهرها}، والضمير عائد على الأرض، إلا أن هناك يدل عليه سياق الكلام، وهنا يمكن أن يعود على ملفوظ به، وهو قوله: {في السموات ولا في الأرض}. ولما كانت حاملة لمن عليها، استعير لها الظهر، كالدابة الحاملة للأثقال، ولأنه أيضاً هو الظاهر بخلاف باطنها. فإنه {بعباده بصيراً}: توعد للمكذبين، أي فيجازيهم بأعمالهم.

1 | 2